الحلقة السادسة في باب (الأدب الشعبي) للعدد 54 ــ (6) تعريف (أدب الرسائل) أنواعه ونماذجه

 الحلقة السادسة في باب (الأدب الشعبي) للعدد 54

ــ (6) تعريف (أدب الرسائل) أنواعه ونماذجه

إعداد/ مجدي شلبي (*)

مقدمة:

كنا قد استعرضنا في الحلقة السابقة نماذجا من الأدب الشعبي النثري، المتمثل في (أدب الوصايا)، ووعدناكم أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن (أدب الرسائل) باعتباره أحد فنون السرد التراثي، بغية الكشف عن ماهية هذا الفن، وتعدد أنواعه ووسائله.

ماهية (أدب الرسائل):

(أدب الرسائل): من أهم فنون الكتابة العربية النثرية، وهو المعني بتوصيل الرسالة إما كتابة وإما مشافهة، من خلال التواصل بالقلم أو اللسان، بغية (انتقال الرسالة من مُرسِل إلى مُرسَل إليه عن طريق واسطة وشخص مساعد يُدعى: رسول أو رسيل).

أنواع الرسائل:

(1) رسائل دينية؛ يقول الشاعر/ محمد السنوسي:

أشرفت "بابن عبد الله" واتلقت *** "رسالة الله" زاه نورها الصمدي

"محمد" خير خلق الله قاطبة *** خَلْقًا وخُلقًا على السراء والنكد

نديم "جبريل" يسقيه فما لفم *** "وجبا" يرتله شاد إلى غرد.

(2) رسائل ديوانية؛ يقول الشاعر/ سلم الخاسر:

أَلا قُل لِمَروانٍ أَتَتكَ رِسالَةٌ *** لَها نَبَأٌ لا يَنثَني عَن لِقائِكا

حَباني أَميرُ المُؤمِنينَ بِنَفحَةٍ *** مُشَهَّرَةٍ قَد طَأطَأَت مِن حِبائِكا.

ثَمانينَ أَلفاً حُزتُ مِن صُلبِ مالِهِ *** وَلَم يَكُ قِسماً مِن أُلي وَأولائِكا.

(3) رسائل قدح؛ يقول الشاعر/ الأخطل:

زَيدُ بنُ عَمروٍ صَدَأُ الفُلوسِ *** قَبيلَةٌ كَالمِغزَلِ المَنكوسِ

لَيسَت مِنَ الأَصلِ وَلا الرُؤوسِ *** وَاِبنُ سَوادٍ تَوأَمُ الجُعموسِ.

(4) رسائل مدح؛ يقول الشاعر/ ابن نباتة المصري:

أقول إذا اسْتكتبت صدر رسالةٍ *** إلى آل فضل الله مأوى الفضائل

أنا العبد يدعو الله في صدرِهِ لكم *** نعم ثمَّ يدعو في صدور الرسائل.

(5) رسائل شخصية؛ يقول الشاعر/ عبد الله بن الزبعرى:

أَلا أَبلِغا عَنّى قُصَيّاً رِسالَةً *** فَأَنتُم سَنامُ المَجدِ مِن آلِ غالبِ

وَأَنتُم ثِمالُ الناسِ في كُلِ شَتوَةٍ *** إِذا عَضّهم دَهرٌ شَديدُ المَناكِبِ.

(6) رسائل عاطفية؛ يقول الشاعر/ العباس بن الأحنف:

كَتَبَ المُحِبُّ إِلى الحَبيبِ رِسالَةً *** وَالعَينُ مِنهُ ما تَجِفُّ مِنَ البُكا

هَذا كِتابٌ نَحوَكُم أَرسَلتُهُ *** يَبكي السَميعُ لَهُ وَيَبكي مَن قَرا

رُدّي جَوابَ رِسالَتي وَاِستَيقِني *** أَنَّ الرِسالَةَ مِنكُمُ عِندي شِفا.

(7) رسائل أدبية؛ يقول الشاعر/ خليل شيبوب:

لقد باكرتني اليوم منك رسالةٌ *** بها كلماتٌ عذبةٌ وعتابُ

مسالمةً لكن أتتني فُجاءةً *** كما انقض في جنح الظلام شهاب.

نموذج من الرسائل النثرية في العصر العباسي:

ــ رسالة الحسن بن وهب إلى المتوكل في عيد النيروز:

"أسعدك الله يا أمير المؤمنين بكرّ الدهور، وتكامل السرور، وبارك لك في إقبال الزمان، وبسط بيمن خلافتك الآمال، وخصّك بالمزيد، وأبهجك بكل عيد، وشدّ بك أزر التوحيد، ووصل لك بشاشة أزهار الربيع المونق، بطيب أيام الخريف المغدق (كثير المياه) وبمواقع تمكين لا يجاوزه الأمل، وغبطة إليها نهاية ضارب المثل، وعمّر ببلائك الإسلام، وفسح لك فى القدرة والمدة، وأمتع برأفتك وعدلك الأمة، وسربلك (ألبسك) العافية، وردّاك السلامة، ودرّعك العزّ والكرامة، وجعل الشهور لك بالإقبال متصدّية، والأزمنة إليك راغبة متشوقة، والقلوب نحوك سامية، تلاحظك عشقًا، وترفرف نحوك طربًا وشوقًا".

نموذج من الرسائل النثرية في العصر الحديث:

إن أشهر نوع من الرسائل ـ في العصر الحديث ـ هي الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران (1883/ 1931م) ومي زيادة "ماري إلياس زيادة" (1886/ 1941م)، والتي استمرت نحو عشرين عامًا دون أن يلتقيا ولو لمرة واحدة، وعلى الرغم من ذلك كانت تلك الرسائل أنموذجا لهذا النوع من الأدب في أرقى وأنقى صورها ومعالمها، وهنا نعرض لبعض نصوص تلك الرسائل.

ـ من مي زيادة إلى جبران خليل جبران:

جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير.

كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.

الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.

حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب.

إن القديس توما يظهر هنا وليس ما أبدي هنا أثراً للوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟ قل لي أنت ما هو. وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى فإني أثق بك.. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.

... غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنت هي مثلي، لها جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب. تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران.

ـ من جبران خليل جبران إلى مي زيادة:

تقولين لي أنك تخافين الحب، لماذا تخافينه يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس، أتخافين مدَّ البحر، أتخافين طلوع الفجر، أتخافين مجيء الربيع، لما يا ترى تخافين الحب؟.

أنا أعلم أنّ القليل في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير، نحن نريد كل شيء، نحن نريد الكمال.

لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.

أنت يا مي كنز من كنوز الحياة، بل وأكثر من ذلك، أنتِ أنتِ، وإني أحمد الله لأنك من أمّة أنا من أبنائها ولأنك عائشة في زمن أعيش فيه، كلما تخيلتك عائشة في القرن الماضي أو في القرن الآتي رفعت يدي وخفقت بها الهوا كمن يريد أن يزيل غيمة من الدخان من أمام وجهه، يا مي، يا ماري، يا صديقتي.

وها أنا أضع قبلة في راحة يمينكِ، وقبلة ثانية في راحة شمالكِ، طالبًا من الله أن يحرسك ويبارككِ ويملأ قلبكِ بأنواره، وأن يبقيكِ أحب الناس إلي.

هل تعلمين يا صديقتي أنني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة، وهل تعلمين بأنني كنت أقول لذاتي هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح، ثم اتخذت بلادي بلادًا لها وقومي قومًا لها، هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كلما وردت عليّ رسالة منك؟ لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة.

لقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري مصغيًا إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف، أقول التعنيف لأنني وجدت في رسالتك الثانية بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها.

كيف أسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصّعة بالنجوم، وكيف أحوّل عيني عن شجرة مزهرة إلى ظلّ من أغصانها، وكيف لا أقبل وخزة صغيرة من يد عطرة مفعمة بالجواهر؟ إنّ حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحوّل إلى عتاب أو مناظرة.

ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها، فهي كَنَهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنمًا في وادي أحلامي، بل هي كقيثارة أورفيوس -شاعر وموسيقي تحدثت عنه أساطير اليونان، سحر بأنغامه وحش الغاب وآلهة الجحيم- تقرب البعيد وتبعد القريب وتحول بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة.

إنّ يومًا يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل فما عسى أن أقول في يوم يجيئني بثلاث رسائل؟ ذلك يوم أنتحي فيه عن سبل الزمن لأصرفه متجولًا في إرم ذات العماد.

وبِمَ أُجيب على سؤالاتك، وكيف أستطيع متابعة الحديث وفي النفس ما لا يسيل مع الحبر؟ ولكن لا بد من متابعة الحديث، فما بقي صامتًا ليس بالغير مفهوم لديك.

ما قولك في رجل يستيقظ من غفلته صباحًا فيجد إلى جانب فراشه "رسالة" من صديقة يحبها فيقول بصوت عالٍ "صباح الخير، أهلًا وسهلًا" ثم يفتح الرسالة بلجاجة العطشان، فماذا يجد؟ لا أكثر ولا أقل من قصيدة جغرافية لشوقي بك.

لو جاءت قصيدة شوقي في أول نيسان لاستظرفت النكتة وقلت في سري: "ما أحسنها صبية، وما أعرفها بأحوال البريد الدولي"، ولكن القصيدة جاءت في أول أيار، شهر الورود، فماذا يا ترى أفعل سوى أن أعض شفتي حانقًا متوعدًا مفعمًا فضاء منزلي بالضجيج.

أنت تعلمين أن القلب البشري لا يخضع إلى نواميس القياسات والمسافات، وأنّ أعمق وأقوى عاطفة في القلب البشري تلك التي نستسلم إليها، ونجد في الاستسلام لذة وراحة وطمأنينة مع أننا مهما حاولنا لا نستطيع تفسيرها أو تحليلها، يكفي أنها عاطفة عميقة قوية قدسية.

منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري، ولقد صرفت الساعات الطوال مفكرًا بكِ مخاطبًا إياكِ مستجوبًا خفاياك مستقصيًا أسراركِ، والعجيب أنّني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في مآتيَّ وأعمالي.

أنتِ بالطبع تستغربين هذا الكلام، وأنا أستغرب حاجتي واضطراري إلى كتابته إليكِ، وحبذا لو كان بإمكاني معرفة ذلك السر الخفي الكائن وراء هذا الاضطراب وهذه الحاجة الماسة.

قد قلتِ لي مرةً: "ألا إنّ بين العقول مساجلة وبين الأفكار تبادلًا قد لا يتناوله الإدراك الحسي، ولكن من ذا الذي يستطيع نفيه بتاتًا من بين أبناء الوطن الواحد؟"

إنّ في هذه الفقرة الجميلة حقيقة أولية كنت فيما مضى أعرفها بالقياس العقلي، أما الآن فإني أعرفها بالاختيار النفسي، ففي الآونة الأخيرة قد تحقّق لي وجود رابطة معنوية دقيقة قوية غريبة تختلف بطبيعتها ومزاياها وتأثيرها عن كل رابطة أخرى، فهي أشد وأصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية والجينية حتى والأخلاقية.

وليس بين خيوط هذه الرابطة خيط واحد من غزل الأيام والليالي التي تمر بين المهد واللحد، وليس بين خيوطها خيط غزلته مقاصد الماضي أو رغائب الحاضر أو أماني المستقبل، فقد تكون موجودة بين اثنين لم يجمعهما الماضي ولا يجمعهما الحاضر، وقد لا يجمعهما المستقبل.

وفي هذه الرابطة يا ميّ، في هذه العاطفة النفسية، في هذا التفاهم الخفي، أحلام أغرب وأعجب من كلّ ما يتمايل في القلب البشري، أحلام طيّ أحلام طيّ أحلام.

أستعطفك يا صديقتي أن تكتبي إليَّ، وأستعطفك أن تكتبي إليَّ بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر، أنتِ وأنا نعلم الشيء الكثير عن البشر، وعن تلك الميول التي تقرّبهم إلى بعضهم البعض، وتلك العوامل التي تبعد بعضهم عن البعض، فهلّا تنحّينا ولو ساعة واحدة عن تلك السبل المطروقة، ووقفنا محدقين ولو مرة واحدة بما وراء الليل، بما وراء النهار، بما وراء الزمن، بما وراء الأبدية؟.

أخيرا وليس آخرا:

هكذا عرضنا هنا ما وعدنا به حول (الرسائل): ماهيتها وأنواعها ونماذج مختارة منها، وأعدكم في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ أن نتناول فنا أدبيا آخر من فنون النثر التراثي وهو فن (الخطابة)، وبالله التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر